ذكريات طفل من الارياف (5)
في ما مضى كان لرمضان مذاقا خاصا يختلف كليا عن الان، اذكر أننا كنا نلتقي بالعشرات فوق هضبة القرية، كان المسجد الوحيد وقتها يحتل اعلاها، كان موقعا فريدا جدا لم ندرك اهميته وقتها ولا ادركناه حاليا مثل عدم ادراكنا لعشرات العطايا الطبيعية التي نملكها ولا نحس بها اصلا، كانت كل قريتنا قديما فوق هذه الهضبة ومع الوقت بدأ النزول منها نحو الاسفل، الهضبة اوحت لنا بابداع لعبة خاصة بنا وهي لعبة التزحلق باستعمال بقايا علب الحليب البلاستكية، حيث نتخلص من الطرف الاعلى والاسفل ونقص الطرف المتبقي ليكون مستطيلا، نربط جهة منه بخيط ونجلس عليه فينزلق هبوطا من الهضبة ونلعب هذه اللعبة في اماسي رمضان قبل المغرب، وحالما يأتي “عمي محمد” المؤذن حتى نعرف ان وقت رفع الاذان قد اقترب فنستعد ونتابع خطواته صاعدا الصومعة خطوة خطوة، فلم يكن هنالك مضخما للصوت لعدم توفر الكهرباء اصلا، هاهو وصل، كاد يصل، مازالت درجتين، وحالما يقول “الله اكبر” ننطلق سريعا نحو منازلنا صائحين “أذن … أذن …” صاحب الحظ السعيد يكون الاقرب الى المسجد فهو يصل دائما الاول وكم تمنيت وقتها لو كان منزلنا ملاصقا للصومعة، في تلك الايام كنا لا نعرف “البريك” (1) ولا “الطاجين” (2) ولا توجد لدينا كل انواع العصير الموجودة حاليا، فقط كانت “الكفتة” (3) هي المشهورة والوحيدة من كل الاصناف التي نعرفها الان، من الحلويات كانت “المخارق” (4) وهي الاشهر على الاطلاق تأتي بعدها “الزلابية” (5) ، وكان الوالد رحمه الله كغيره من رجال القرية يشتري كيلوغرام او اثنين يوم السوق الاسبوعي من مدينة قبلي القريبة (6)، اما اللحم فقد كان دائما جديدا وفي يومه فكنا لا نعرف الثلاجات باعتبار عدم وجود الكهرباء، الجزار في حد ذاته غير موجود ولكن دائما وبالشراكة بين العائلات تذبح الاغنام يوميا ليكون نصيب الشخص حسب عدد المشاركين دون الحاجة للميزان، اما الدواجن فكنا لا نعرف لا “سكالوب” (7) ولا “صلامي” (8) ولا “كويكة” (9)، كله طبيعي والدجاج والبيض البلدي لا يخلو منه بيت لدينا، الارانب كذلك متوفرة بشكل كبير حتى نكره لحم الارانب ونادرا ما يوجد بيت لا يربيه، المشروبات الغازية كانت ثنائية لا نعرف غيرها “الكوكا” و”الفانتا” وباعتبارهما فقط هما الموجودتان فلا نسميهما الا بالسوداء او الحمراء، بعد مدة طويلة دخلت قريتنا السينالكو ولكن لم تستطع منافسة الحمراء والسوداء، كان “القازوز” (10) يبرد في البئر بوضعه في سطل منذ الصباح ليكون باردا عند اذان المغرب، كل الخضر والغلال وقتها كانت من انتاج محلي، من الواحة، كل فلاح كان لديه الاكتفاء الذاتي مما ياكل تقريبا.
كان خوخ الضيعة لصاحبها ولكل الجيران، و”الدلاعة” تقسم على ثلاثة او اربع جيران بدون اي مشكل لا للجار ولا لصاحب الدلاعة، فكلها من عند الله كما نقول وكما نؤمن، ومثل الخوخ والدلاع الامر كذلك للمشمش والتين والبطيخ، اذكر ان ضيعتنا وقتها كانت تحتوي اكثر من عشرين شجرة تين، كلها يوزعها الوالد على من يكون في طريقه ولا يبقى لنا الا ما ناكله ليلتها، ولو تعذر على الوالد توزيع الكمية في طريق العودة نظرا لركوبنا الحمار تتكفل الوالدة بالامر حالما نصل المنزل، وتكلفني بتوزيع التين من دار الى دار حتى يذوق كل الجيران تين ضيعتنا، كان الوالد الله رحمه يختبئ ويجذبني معه كي لا اظهر عندما يجد احد سكان القرية يقطف الغلال من ضيعتنا حتى لا يحرجه ولا نخرج الا بعد ان ينتهي الرجل ويذهب في حال سبيله ويبقى الوالد مدة مرددا “مسامحه قدام ربي”، كانت ايام رمضان كلها مودة في ما بيننا وكلها بركة وفيها نتذوق كل اطباق الجيران رغم بساطتها.
بعض ذكريات طفولتي في رمضان بقريتي بشلي – ولاية قبلي – تونس
***
(1) بريك: جمع بريكة، أكلة تونسية تعتبر طبقا رئيسيا في رمضان
(2) طاجين: اكلة تونسية قديمة ويحتوي عددا كبيرا من الانواع تختلف حسب المكونات وحسب الجهات ايضا.
(3) الكفتة: تختلف كثيرا حسب المكونات وحسب الجهات ايضا وهي دائمة الحضور على مائدة رمضان لدينا
(4) مخارق : نوع من الحلويات في شكل معجنات وهي مشهورة جدا بتونس وتستهلك بكثرة في رمضان.
(5) زلابية: لها شهرة كبيرة في تونس وهي تشبه إلى حد ما الشباكية المغربية، هي نوع من الحلويات الشعبية، مشهورة في دول المغرب العربي خصوصا.
(6) مدينة قبلي: مركز ولاية بجنوب تونس.
(7) سكالوب: قطع لحم دون عظام يتم ترقيقها، تطهى بشكل أسرع وذلك أمر مفيد لإعداد الوجبات السريعة، ارتبطت كلمة سكالوب لدينا بلحم الديك الرومي.
(8) صالامي: نوع محدث للحم المجفف وادخلت عليه تغييرات كثيرة حاليا حتى ابتعد المكون لها عن المعنى الاصلي للتسمية
(9) كويكة: من منتوجات الدواجن مكونة من لحم وتوابل
(10) القازوز: الكلمة الشعبية للمشروبات الغازية