المُبَرقَشَة
كان يا ما كان في قديم الزمان قرية صغيرة يعتمد سكانها على الزراعة قوتًا لهم، كما كانوا يعتمدون على بيع المحصول السنوي للقرى المجاورة، عاش في هذه القرية مزارع طيب القلب، كريم الطباع، ومعروف بأدبه وخلقه القويم، وكان الناس ينادونه بعبد الكريم. كان للرجل الكريم حصانان يعتمد عليهما في الزراعة وتحميل ما يلزم من ثمار لبيعها في المدينة والقرى المجاورة منها، فهما رجلاه اللتين يمشي بهما، وكان قد أَطلق على الحصان ذي اللون الأسود اسم “الشجاع” لما يتمتع به من قوة جسدية، وشجاعة لا نظير لها، ولطالما استمات في الدفاع عن مزرعة صاحبه من قطَّاع الطرق واللصوص، أمَّا زوجته الفرس البيضاء، فقد أَطلق عليها عبد الكريم الخيل الأصيلة، لما تبذله من جهد وإخلاص في العمل دون ملل أو كلل أو حتى شكوى، وعلى الرغم من ذلك، فهي المتكبرة على زوجها الحصان الأسود متباهية بجمالها ولونها الأبيض حيث زادها اللون الناصع جمالا ورشاقة. رُزقَت الفرس البيضاء بابنة أطلق عليها صاحب المزرعة عبد الكريم اسم مهرة، حيث قدم لها العناية وحسن معاملة وما تحتاجه من رعاية طبية وطعام صحي يناسب هذه المولودة مُهْرَة.
شكَّلت مُهْرة للمزارع عبد الكريم مكانة كبيرة وغالية، فهي المُهْرة المبرقشة النادرة كوالدتها الأصيلة، ولطالما حاول المزارعون شراء مهرة بأسعار خيالية، إلا أنَّ عبد الكريم كان يرفض رفضًا قطعيًا، فلا يمكن أنْ يفصل مهرة عن والدتها، ولن يجد لها بديلا في شكلها ذي الخطوط الجميلة على جسدها. ذات يوم حضر صديقه خالد لزيارته، فقد كان مسافرًا للهند، وانقطعت أخباره عنه لفترة طويلة، بعد أن تناولا الغداء، قال له عبد الكريم: ما رأيك أَن نشرب الشاي في الحديقة…وبعد شرب الشاي أَصحبك بجولة في مزرعتي.. وسأعرفك على أجمل مهرة في العالم! لم ترَ عينك مثلها من قبل… ولا من بعد… فهو يعلم عشق صديقه للخيول النادرة… استمتع الصديقان كثيرًا بالجلوس في الهواء الطلق وشرب الشاي… طلب خالد من صديقه أَن يُريه مهرة… فقد انتهيا من شرب الشاي… ضحك عبد الكريم كثيراً… وقال له: ها أنت قد تعلقت بها قبل أن تراها… كيف سيصبح حالك لو رأيتها؟! شَدَّهُ خالد من يده وركض به إِلى الإِسطبل مكان تواجد مهرة… كان عبد الكريم لا يزال يضحك وهو يصيح بصديقه… على مهلك يا خالد… على مهلك… أَكاد أَقع! فلم نعد صغارًا لنركض هكذا! صبرًا صبرًا.. ستراها! ما أَن وصلا الاسطبل… ورأى خالد مُهْرَة .. حتى جثا على ركبتيه.. وهذي بكلام لم يفهمه صاحبه… نظر إليه… وسأله بقلق: ما بك يا صديقي هل أَصبت بالدوار من الركض! استرح… استرح… لقد نبهتك… ولم تستمع لي! إِلا أَنَّ خالدًا قال بصوت مرتفع وبإصرار غريب وهو يلهث كأنما تقطعت أَنفاسه : ب .. ب .. بكم .. بكم تبيعني مهرة.. اطلب ما تريد ثمناً لها.. فلدي نقودًا لا تأكلها النيران… هيا… هيا… قل بسرعة! لن أجادلك في المبلغ الذي تطلبه! صمت عبد الكريم … ونظر إِلى صديقه كيف يلامس مهرة ويحتضنها… كأنها ملكه قال له بحزم: مهرة ليست للبيع، ورغم ذلك لا تغلو عليك… لكنني حقيقة لا أَستطيع الاستغناء عنها… نظر خالد إليه ليرى ردة فعله على كلامه… بدا في عينيه نظرة غريبة هزت عبد الكريم وألقت الرعب في قلبه وحدث نفسه قائلًا ( مستحيل أَن يكون هذا خالد صديق عمري… صحيح أَنني أَعرف أَنه لو أَراد شيئًا لن يمنعه عنه شيءٌ حتى يحققه… لكنني لأَول مرة أراه بهذه الصورة البشعة… وكأَنني أَعرفه لأول مرة! استأْذن خالد من صاحبه… وذهب مطأطئ الرأْس تملؤه الحسرة! في الليل استيقظ عبدالكريم على صوت إِطلاق نار … نهض من فراشه فزعًا وركض إِلى الخارج ليرى ماذا يحدث! فالصوت قريب جدًّا… ولا شك أَنه في مزرعته، ركض .. إلى أن وصل الحظيرة ما رأته عيناه لم يصدقه عقله ! صديق عمره غارق بدمائه ملقًى على الأَرض، تلفت بسرعة ليطمئن على أَحصنته، رأَى الحصان الأَسود ينزف بغزارة وحوله زوجته وابنته تبكيان… اتصل على الفور بالإِسعاف، واحتار من يساعد أولًا ريثما يصل الإسعاف. فهذا صديق عمره ينزف، وهذا حصانه مصدر رزقه والغالي على قلبه يراه يلفظ أَنفاسه أَمامه، بسبب عمق جرحه… سمع صديقه يهمس بصوت ضعيف: أَنْقِذْ حصانك يا عبد الكريم، فهو أَنبل مني… لقد دافع عن ابنته دفاعًا مستميتًا… مما اضطرني لإطلاق النار عليه… وتابع وهو يتألم ويتأَوه من شدة ما أَصابه من الحصان الأَسود: سامحني يا صديقي… لقد حُجِبَت الرؤية عن عيني فلم أعد أرى الصواب… وصممتُ على أَخذ مُهْره حتى لو اضطرني الأَمر إِلى سرقتها منك وها أَنا أَنال جزائي… أثناء ذلك كان عبد الكريم قد أَسعفَ حصانه، وانتقلَ ليسعفَ صديقه، وقلبه مليءٌ بالحزن عليهما. ورغم ما أَصابه إِلا أَنه لم يملك إِلا أَنْ يُسامحَه، ما دام قد اعترف بذنبه.
تاليف أ. دلال ابو طالب و أ .أيمن دراوشة