وصايا الفشل المر (4)
لاحظت شيئا مهما جدا يبرز دائما، وهو غياب حالة الحب لبعضنا البعض، نتيجة التربية الخاطئة والتعليم الخاطئ نكون بديهيا مهيئين لنأخذ موقفا حذرا من منطقة محددة من الوطن، هذه المنطقة معروفة بالانحراف، هذه المنطقة تكره الاجنبي، هذه المنطقة تكثر فيها السرقة، هذه أخلاق اهلها متدنية، وتبقى هذه النظرة مسيطرة كليا على أدمغتنا حتى لو اخرجت هذه المناطق عباقرة ينفعون يوميا هذه الامة بعلمهم،أيضا على مستوى نفس المدينة هنالك جهة اكثر كرها وخبثا ويحتاط الجميع منها، حتى القرى الصغيرة لم تسلم، فالعرش الفلاني بخلاء وسيئين جدا ويجب التعامل معهم بحذر، العرش الآخر نشطين وجيدين في العمل لكنهم عباد الدرهم والدينار، حتى دولنا وبشعوبها نقسمها، هذا الشعب غبي، والاخر جاهل ولا يملكون الا المال، وهكذا نصنف الجميع وفق ما وصلنا، شربنا وأكلنا وشبعنا من اتهام الاخر بالخبث والدناءة والشر المطلق، كذلك وقعت برمجتنا لنقتنع بنظرية المؤامرة وأن الغرب الكافر يريد احتلالنا والقضاء علينا لنبقى تحت رحمته الى أن يرث الله الارض وما عليها.
احتجت مرة لمعلومات تخص تربية الماعز المنتج للحليب، ربطت الصلة مع جمعيات ومعاهد فرنسية مختصة في تربية الماعز وفي تحويل الحليب لجبن، وقتها كنت مهتما جدا بعالم الاجبان المتأتي من حليب الماعز وارجعت اسطبلي الصغير لمختبر فعلي لتحويل الحليب ضمن مغامرة رائعة اكتشفت من خلالها عالما واسعا رحبا، ايام ووصلتني ردود كل من راسلتهم، أعطوني الكتب والدراسات والمجلات المختصة، واعطوني مواعيد دوراتهم المدفوعة والمجانية التي قد أود حضورها، وفيهم جمعية فرنسية مختصة بهذا الماعز جعلتني عضوا شرفيا من أعضائها وبقوا شهورا يرسلون لي مجلتهم التي يصدرونها لتصلني لحد باب بيتي قبل ان تتحول المجلة لرقمية تنشر مجانا على الشبكة، هؤلاء لم يسألوني عن لوني او لغتي او ديني او انتمائي، تعاملوا معي كانسان يعيش في هذا العالم، وقالوها لي مرارا أن دورهم ودور كل انسان هو مشاركة العالم ما يعرف، وفعلا بعدها تعاملت مع فرنسي يملك ثلاث دجاجات وديك يشارك تجربته مع هذا العدد هواة تربية الدجاج بكل ما يعرفه، في البداية كنت محتارا جدا ومستغربا، فما مصلحة جمعيات فرنسية او مخابر بحث حيواني في الاهتمام بطلب بسيط من مواطن تونسي عربي مسلم مرمي في قرية صغيرة لا تكاد ترى على الخريطة، بل وصل الامر لاتلقى رسالة بخط اليد من مهندس فرنسي تسوق مؤسسته تصميما عصريا لاسطبل ماعز يعلمني فيه انه يجب ان يحيطني علما بمعلومة هامة في حال اردت شراء التصميم، وهي ان المواد التي بني بها الاسطبل تصلح للمناخ الاروبي عكس المناخ الصحراوي بقريتي الصغيرة في الجنوب وانني يجب ان اغير مواد البناء، بعد تواصل المسيرة معهم اكتشفت شيئا يجمعهم كلهم وهو ايمانهم بانك كلما اعطيت تنال اكثرا، كلما قدمت من خير سوف يعوض لك، وآخر كتاب طالعته كان كتابا امريكيا حول انشاء المؤسسات والشركات ليضع المؤلف “فصل مد العون للمؤسسات الصغرى الشبيهة” أهم فصل فيه ويركز عليه كثيرا عكسنا نحن حيث اشتهر لدينا المثل الشعبي الرهيب “صاحب صنعتك عدوك”، هم يؤمنون بمشاركة المعلومة مهما كانت بسيطة، المهم ان تساهم في تغيير هذا العالم، واعترف اني تأثرت بهم حتى بت أشارك كل ما اعرف، سواء ما يخص التربية الحيوانية او العلمية الموجهة للاطفال او تجاربي التربوية الموجهة للاسر العربية، فهذه المشاركة ضرورية لتستمر سيرورة الحياة ونساهم جميعا في جعل العالم مكانا أفضلا، ذات مرة نشرت موضوعا عن تجربتي تلك مع الفرنسيين، ليصلني ردا من مثقف عربي: “هنيئا لك بتكنولوجيا تربية الماعز، ولكن هل يمكن لاصدقائك الفرنسيين مدك بالتكنولوجيا النووية؟؟”، استغربت كثيرا حول ذلك الربط العجيب وحتى لو اردت ما نفع التكنولوجيا النووية لدى دول جاهلة تستورد حتى قوتها من وراء البحار، وكم ابقى مستغربا عشقنا نحن العرب لرئيس كوريا الشمالية وهو ينتفخ بالنووي وشعبه حوعان، ويبقى ايماني قطعيا في أن تربية دجاجة وانتاج بيضة واحدة، واحدة فقط اهم من التكنولوجيا الذرية والنووية معا، فالنهضة تبنى بالدجاجة والمعزاة وبراس الثوم والبصل وسنبلة الشعير وحرية التفكير والابداع وبالتعليم الجيد والابتكار النافع وليس بقنبلة تقضي على الالاف في لمح البصر، ونشاهد الخلط الرهيب في ادمغتنا في مد مربي ماعز بتكنولوجيا النووي وكيف ان دماغنا اصلا بني على التدمير ولدينا عربيا نسبة هامة تؤمن بالقضاء على الثلث ليصلح الثلثين ونسينا أن سيدنا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله اصلح أمة كاملة في سنتين بعدله واخلاقه وليس بسيفه.
نحن اول من يخرب ومع ذلك ندعو للاصلاح، فحتى برامجنا في الحاسوب، كلها دون استثناء، من برامج الكتابة الى تحرير الصور الى تحرير الفيديو الى برامج الالعاب والموسيقى، كلها مقرصنة ومسروقة وفي نفس الوقت نعلم اطفالنا ان السرقة حرام ، وفي هذا المثال تحديدا نجد عشرات الاعذار لنبرر القرصنة وذات مرة قالها لي احدهم ان ذلك من اجمل عمليات الجهاد ضد امريكا، ونسي ان هذه القرصنة قتلت الابداع عربيا وجعلت الشركات العربية تعزف عن اي اضافة لان اي برنامج سيقرصن ويرفع مجانا للشعب الكريم والكل يدعو بالخير العميم لرافعه وان الله سوف يضاعف حسناته لانه وفر مادة رائعة وساهم في محاربة احتكار العلم واذكر مرة اني رفعت اسطوانة علمية للاطفال للتحميل المجاني وحملت في وقت وجيز اكثر من 6000 تحميل والكل يشكرني وانا منتفخ كالطاووس كوني نفعت الاف الاطفال والحقيقة المرة اني سببت بلاوي لم اعرفها الا لما طالعت كثيرا عن المقرصن ومخاطره وانه سرقة واضحة لا غبار عليهاو فعلا انضممت وقتها لمنتدى لا ينشر الا الانتاج الخاص ويرفض النقل والنسخ لصق والجميل وقتها اننا قدمنا اعمالا رائعة وكانت تلك التجربة بداية وعيي بالبرامج المجانية ومفتوحة المصدر والان اكتب كل نصوصي ببرنامج مجاني وجدت الامر عاديا جدا ولا يختلف عن الوورد الا في الاسم.
طرح علي منذ فترة سؤال من قارئة ضمن الجزء الثاني من السلسلة: “حسنا جدا وجميل ما تقول، ولكن قدم لنا حلولا نفعلها مع اطفالنا لنتجاوز الاخطاء التي تكلمت عنها”، وفعلا الامر اجده وجيها ولكن الجواب ينقسم لقسمين،الاول خاص والثاني عام، فالخاص هو الخاص بي كأب وكأم وكاسرة ولكن العام هو الحل المنوط بالمؤسسات المهتمة بالتربية والتعليم في كل بلد. فما يهم الخاص وما أؤمن به فقد وضحته كثيرا في هذا الموقع من خلال تدوينات اراها مميزة ومبسطة وفي متناول كل أسرة تريد تحسين مردودية اطفالها (يمكن الرجوع لمحور “كيف تجعل طفلك عبقريا ومميزا دراسيا؟” بالموقع فهو يحتوي تجربة مميزة تخص الاطفال الصغار بابسط ما يوجد في المنزل).
أما الحل العام فهو المرتبط بمؤسسات الطفولة والتربية والتعليم في كل بلد، فيجب أن تغير طرق التدريس كليا ليكون الطفل هو الفاعل وليس المفعول به، يجب الابتعاد كليا عن المنهج التلقيني وترك الطفل يكتشف وينتج ويعبر مع توفير الاليات لذلك.
أما الحل العام فهو المرتبط بمؤسسات الطفولة والتربية والتعليم في كل بلد، فيجب أن تغير طرق التدريس كليا ليكون الطفل هو الفاعل وليس المفعول به، يجب الابتعاد كليا عن المنهج التلقيني وترك الطفل يكتشف وينتج ويعبر مع توفير الاليات لذلك.
كل ما كتبته عبر هذه التدوينات الخاصة بوصايا الفشل المر كان تشريحا وذكرا لاسبابي في ما يمكن ان اخطه نتيجة فشلنا كجيل كامل في نحت شخصية مميزة وخلاقة ومتزنة لاطفالنا، هي وصايا وتوصيات انشرها للاجيال القادمة خارجة من عمقنا، تأتي من خلال جملة نقاط الفشل المدوي الذي عشناه ونعيشه، ما أريده لأبنائي اولا ولجيلهم عامة عدم السير في نفس الطريق واقتراف نفس الاخطاء والوصول لنفس النتيجة، كل توصية ستكون من خلال “أوصيك يا ولدي” وولدي هذا هو ابني وابنك، إبنتي وابنتك، مهما كان موقعك وخصوصا لو كنت تنطلق من نفس بيئة الفشل، ميزة جيلي هو رفض منطق هذا الجيل وشكله وتصرفاته مطلقا، وجيلي للاسف مع الاجيال السابقة لم يجلبوا سوى الهزيمة تلو الهزيمة، وهذا الاعتراف ليس بسيطا ابدا وليس في متناول اي كان فالاغلبية الساحقة من جيلي مازالت تحن الى ذلك الزمن الجميل وتحن للتربية بالعصا وتعشق اسلوب العصا لمن عصا، وتؤمن بمقولة “العرب لا يسيرون الا بالعصا”، نبرر حتى القتل في سبيل ان نحقق ما نراه صوابا، هذه التوصيات ليست سوى اسطر بسيطة قد لا تعني للكثيرين شيئا ولكنها في حقيقتها تمثل حصيلة اخطاء سنين تراكمت واريد من ابني وابنتي وابنك وابنتك تجاوزها ليكونوا افضل مني ومنك، فالطريق امامهم طويلة واريد لبعض هذه النقاط ان تكون مصباحا قد يضيء بعض ما شكل ظلاما.
………… يتبع
***************
وصايا الفشل المر … تدوينات أب في شكل وصايا لولده انطلاقا من فشل أجيال كاملة لغاية توضيح المسار من أجل حياة يتمنى ويرجو ان تكون اكثر سعادة ووضوحا ونجاحا.
تمت الباقة الاولى من سلسلة الوصايا وهي ضمن الروابط التالية: